ترمب لا يكره الإعلام!
ترمب لا يكره الإعلام!
يبدو أن هناك شبحاً يجول في الوسط الإعلامي الأميركي حالياً، ويتحرك بحرية وثقة؛ وهذا الشبح هو الخوف، أو على الأقل، فإن ذلك ما تراه صحيفة «نيويورك تايمز»، في افتتاحية نشرتها يوم الجمعة الماضي، عشية تنصيب دونالد ترمب رئيساً للبلاد.
وفي هذه الافتتاحية، تتوقع الصحيفة صدامات وأزمات، ومستقبلاً غامضاً ومحفوفاً بالمخاطر لمفهوم حرية الرأي والتعبير، الذي تراه ركناً أساسياً من أركان السياسة والمجتمع والثقافة الوطنية الأميركية.
تقول الافتتاحية إن ترمب يعتمد «تكتيكات تخويف» ضد الإعلام من جانب، ويستخدم الإعلام، وخصوصاً وسائط «التواصل الاجتماعي»، لتخويف خصومه ونقاده من جانب آخر؛ وبذلك فإنه يحول اهتمامهم من تقصي أفعاله وملاحقة «أخطائه» إلى الدفاع عن أنفسهم، في مواجهة سيل من الاتهامات السياسية والملاحقات القضائية، التي يبرع في تدبيرها.
نحن في منتصف العقد الثالث من الألفية الثالثة، وقد ازدهرت الديمقراطية ومعها حرية الصحافة في الغرب، وزاد نفوذهما وتأثيرهما بدرجة كبيرة؛ ومع ذلك، فإن الخوف يجد طريقه إلى الوسط الإعلامي الأميركي، ويدفع بعض رموزه وأقطابه إلى تغيير مواقفهم، أو السكوت عند الحاجة للكلام، أو محاباة الرئيس المُنتخب، وتقديم فروض الولاء والطاعة له. إنه أمر غريب ومُحير، ويبدو أيضاً عكس الاتجاه.
فقبل أيام وافقت «إيه بي سي» على دفع مبلغ 15 مليون دولار، لإنهاء ملاحقات قضائية ضدها، على خلفية اتهامها بالتشهير بترمب، وقد حدث ذلك في وقت تنشغل فيه «سي بي إس» بنزاع قضائي آخر، بعدما اتهمها الرئيس المُنتخب بمحاباة منافسته في الانتخابات الأخيرة كامالا هاريس.
وفي منتصف الشهر الماضي، بدأ ترمب إجراءات قضائية لملاحقة صحيفة محلية في ولاية آيوا، متهماً إياها بنشر نتائج استطلاع رأي يتعلق بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، بعدما رأى أن هذه النتائج «مُضللة ومُنحازة».
لكن مالكي شركات التكنولوجيا الكبرى، وأصحاب المليارات من مشغلي وسائل «التواصل الاجتماعي»، لم يخاطروا بمعارضة الرئيس أو الثبات على مواقفهم الناقدة إزاءه؛ فبعدما بات إيلون ماسك، مالك منصة «إكس»، حليفاً ومُمولاً ومُستشاراً وركناً من أركان قيادة ترمب، سخّر له منصته بالكامل، لإنفاذ رؤيته وتحقيق أهدافه.
ويبدو أن مارك زوكربيرغ رئيس «ميتا»، التي تمتلك «فيسبوك» و«إنستغرام» وعشرات الشركات الأخرى، يسير على الدرب نفسه، بعدما أعلن التخلي عن برنامج تقصي الحقائق، الذي يعتمده في منصاته، وهو أمر عدّه المتخصصون محاولة لخطب ود الرئيس المُنتخب.
وقد حدث ذلك بعدما اضطر جيف بيزوس، مالك «واشنطن بوست»، وقبلها «أمازون»، إلى رفض تأييد صحيفته المُهمة لكامالا هاريس في الانتخابات، على عكس إرادة قطاع كبير من العاملين في الصحيفة، وعلى عكس خطها السياسي والتحريري المعروف أيضاً.
فهل يكره دونالد ترمب الإعلام؟ وهل يُمعن في معاداته؟ وهل يرغب حقاً في أن يستيقظ يوماً، فيجد أن وسائل الإعلام كلها سكتت، أو توقفت عن العمل؟
الإجابة: لا
لقد سبق أن عبّر ساسة كبار عن عداء شديد للصحافة؛ ومن هؤلاء السلطان عبد الحميد، الذي قال من منفاه بعد عزله: «لو عدت إلى يلدز، لوضعت محرري الجرائد كلهم في أتون من الكبريت»، وكذلك فعل القيصر نيقولا الثاني؛ الذي قال: «جميل أنت أيها القلم، لكنك أقبح من الشيطان في مملكتي».
أما القائد الفرنسي نابليون بونابرت، فقد نُسب إليه في إطار رؤيته للصحافة هذا القول: «أخشى ثلاث جرائد أكثر من خشيتي لمائة ألف حربة»، بينما شنت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت ثاتشر هجومها الأشهر على وسائل الإعلام، في ظل مواجهة بلادها هجمات مسلحة من الجيش الجمهوري الآيرلندي، حين قالت: «الصحافة توفر الأكسجين للإرهاب».
يبدو أن معظم هؤلاء القادة لم ينظروا إلى «الإعلام» سوى من زاوية واحدة تبدو شديدة الضيق، وهي زاوية تتعلق بقدرتها على خدمة مصالحهم الآنية ورؤاهم الصارمة في أوقات محددة، وكذلك أيضاً يفعل ترمب.
يعطينا الرئيس ترمب، الذي أربك العالم بأنشطته الاتصالية الكثيفة والمثيرة للجدل، المثل الأوضح على العلاقة الحادة والمتذبذبة بين القائد السياسي ووسائل الإعلام، فنحن ندرك أن معركته طاحنة ومستدامة على وسائل الإعلام الجماهيرية الرئيسة في بلاده، التي يعتبرها «شوكة في حلقه»، و«أداة لأعدائه ونقاده»، لكننا كنا نعرف أنه يعتبر وسائل «التواصل الاجتماعي» عوناً وظهيراً له، عبر تأمينها تواصلاً مباشراً غير خاضع للتأطير بينه وبين جمهوره.
ألم يعلن ترمب، في 2017، أنه لم يكن يصل إلى البيت الأبيض لولا «تويتر» («إكس» حالياً)؟ ألم يصف «السوشيال ميديا» بأنها «منصة هائلة»؟ ألم يطور منصة «تروث سوشيال» لتكون صوته ومنبره؟ ألم يقرب إعلاميين مرموقين إلى حملته، ويرشحهم لمناصب في إدارته؟
ترمب سيحب الإعلام، ما دام يطاوعه ويصدح بأفكاره، ويدافع عن مواقفه. وسيكرهه، ويُخيفه، ويحاربه، ويقصيه، إذا فعل ما دون ذلك.
نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط